غزة- مجاعة مُنظمة ورهينةٌ إسرائيلية تكشف الحقيقة.

المؤلف: د. عمار علي حسن08.21.2025
غزة- مجاعة مُنظمة ورهينةٌ إسرائيلية تكشف الحقيقة.

لم يعد لدى حكومة بنيامين نتنياهو أي مبرر لإنكار كارثة المجاعة التي تعصف بقطاع غزة، خاصة بعد انتشار مقطع فيديو مؤثر بثته المقاومة الفلسطينية. يظهر الفيديو أسيراً إسرائيلياً يعاني من آثار الجوع الشديد، وهو يناشد الحكومة بصوت ضعيف: "أنا أموت جوعاً، أدخلوا الطعام".

قبل أيام قليلة، صرح نتنياهو قائلاً: "لا يوجد أحد في غزة يتضور جوعاً"، نافياً بشدة أن تكون سياسة التجويع جزءاً من استراتيجية حكومته. وادعى زاعماً أن الجيش الإسرائيلي يسمح بمرور المساعدات الإنسانية طوال فترة الحرب، ثم ساق حجة واهية، مفادها أن بقاء الغزيين على قيد الحياة حتى الآن هو دليل قاطع على عدم وجود مجاعة.

منذ أشهر عديدة، تحاول إسرائيل جاهدة دحض الاتهامات الموجهة إليها بإحداث مجاعة في غزة - وهي حقيقة مؤلمة وواضحة للعيان - وذلك بالاعتماد على خمسة ادعاءات رئيسية:

1 - التمسك بالصورة النمطية التي روجت لها إسرائيل لعقود، والتي تزعم أن جيشها هو "الأكثر أخلاقية في العالم". لم يكن هذا الادعاء صحيحاً على الإطلاق، لكن الكثيرين في العالم لم يهتموا بالتحقق من صحته أو دحضه، بل إن بعض وسائل الإعلام الغربية وبعض الأدبيات العسكرية والسياسية ساهمت في ترويج هذه الصورة الزائفة.
لكن هذا الادعاء لم يعد له أي تأثير يذكر، خاصة بعد ارتكاب هذا الجيش جرائم "إبادة جماعية"، وقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء، وتدمير منازل المدنيين في قطاع غزة المنكوب.

2 - الادعاء بأن حركة "حماس" تقوم بسرقة المساعدات التي تدخل القطاع، وتعيد بيعها بأسعار مضاعفة. هذا الادعاء كذبته الأمم المتحدة بشدة، مؤكدة أن نهب المساعدات ليس ممنهجاً، وأنه يتضاءل أو يتوقف تماماً في حال السماح بدخول كميات كافية من المساعدات. كما كذب هذا الادعاء تصريحات لمسؤولين غربيين وشهود عيان. وكشفت الحقائق أن مجموعات عميلة لإسرائيل هي التي تستولي على المساعدات الشحيحة التي تدخل القطاع بصعوبة بالغة، وذلك لمنع وصولها إلى مستحقيها.

3 - اتهام حركة حماس بممارسة الدعاية ضد إسرائيل من خلال المبالغة في الحديث عن نقص الغذاء والدواء في غزة، بهدف استدرار التعاطف الإنساني والتأثير على الرأي العام الدولي للضغط على إسرائيل لوقف الحرب.
لكن هذا الاتهام دحضته الأوضاع المأساوية على أرض الواقع، والتي ترصدها وسائل الإعلام وتؤكدها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، التي وصفت المجاعة في غزة بأنها "من صنع الإنسان بالكامل"، في إشارة واضحة إلى قوات الاحتلال الإسرائيلي.

4 - محاولة التنصل من الالتزامات التي تفرضها القوانين الدولية على أي قوة احتلال تجاه الشعب الواقع تحت الاحتلال. فغزة، على الرغم من انسحاب إسرائيل منها قبل نحو عشرين عاماً تحت وطأة الظروف، لم تتحول إلى دولة مستقلة أو كيان سياسي ذي سيادة. وحتى لو أصبحت جزءاً من منطقة الحكم الذاتي الفلسطيني مع الضفة الغربية بموجب اتفاقية أوسلو عام 1993، فإن هذا بقي أمراً نظرياً، بينما استمرت إسرائيل في ممارسة سلطتها كقوة احتلال على الفلسطينيين، دون توقف.

وفيما يتعلق بأزمة المجاعة، حاولت إسرائيل التنصل من مسؤوليتها وإلقاء اللوم على من يدير القطاع، قاصدة بذلك حركة حماس تارة، أو أطرافاً إقليمية أخرى، وعلى رأسها مصر، تارة أخرى. إلا أن إسرائيل احتلت الجانب الآخر من معبر رفح بين مصر وغزة، وترفض السماح بمرور المساعدات من خلاله، في انتهاك صارخ لاتفاقية المعابر لعام 2005.

وهنا لم يعد الحديث عن "التزام المحتل" مجرد افتراض نظري، خاصة بعد أن بدأت تل أبيب عملية عسكرية أطلقت عليها اسم "عربات جدعون"، والتي تتضمن خططاً لاحتلال القطاع بالكامل.

5 - الاختباء وراء ستار "مؤسسة غزة الإنسانية" التي أنشأتها إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية، والادعاء بأنها معنية بتوفير الغذاء لسكان القطاع. إلا أن هذه المؤسسة، وبشهادة مايكل فخري، مسؤول ملف الغذاء في الأمم المتحدة، ليست سوى مجرد خطة عسكرية وسياسية، وليست إنسانية على الإطلاق. فهي تستخدم الغذاء كسلاح، بهدف التضييق على المقاومة الفلسطينية أولاً، ثم جعل الحياة مستحيلة على سكان غزة المدنيين. وتشن القوات الإسرائيلية باستمرار هجمات على مناطق توزيع الغذاء، وتطلق النار الحي على الجائعين الذين يقصدونها، وكأنهم مجرد "حيوانات"، على حد وصف فخري، في ممارسة فاضحة لـ "تطهير عرقي" يمثل خرقاً وانتهاكاً كاملاً للقانون الدولي.

وأيدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" هذه الرواية، متهمة القوات الإسرائيلية "بإقامة نظام عسكري معيب لتوزيع المساعدات في غزة، وتحويل هذه العملية إلى حمام دم ومصيدة للموت".

وهناك محاولات إسرائيلية أخرى للتغطية على جرائمها من خلال الدعاية المصاحبة للسماح بدخول بعض المساعدات عبر البر أو الإنزال الجوي، كما حدث في الأيام الأخيرة. إلا أن هذه المساعدات، ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة نفسها، لا تعدو كونها "قطرة في محيط". فإسرائيل ترفض السماح بدخول كميات هائلة من المعونات مكدسة في مدينة العريش المصرية، والتي تكفي سكان القطاع لثلاثة أشهر، حسب تقديرات الأونروا، التي أكدت أن غزة تحتاج إلى دخول ألف شاحنة يومياً على الأقل لتجاوز خطر المجاعة.

لقد تجاهلت إسرائيل بشكل صارخ بياناً مشتركاً أصدرته ثلاث وعشرون دولة، بالإضافة إلى مسؤولين رفيعي المستوى في الاتحاد الأوروبي، يطالبها بالسماح الفوري باستئناف دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. وأصمت آذانها وأغمضت عينيها عن بيان آخر صادر عن قادة فرنسا وبريطانيا وكندا، يطالبها بوقف "الإبادة الجماعية" التي يتعرض لها سكان القطاع، بعد أن وصل "مستوى المعاناة الإنسانية في غزة إلى حد لا يطاق". كما تجاهلت نتائج تقرير صادر عن برنامج الأغذية العالمي، والذي رأى أن وضع الأمن الغذائي في قطاع غزة بالغ الخطورة، وأن العالم يجب أن يسارع الزمن لتفادي آثار المجاعة الوشيكة.

أمام هذا الإنكار الإسرائيلي المتواصل، لم يكن أمام المقاومة الفلسطينية من خيار سوى تقديم رد عملي قاطع، وذلك بنشر مقطع فيديو مؤثر لأحد الأسرى الإسرائيليين لديها، والذي كان من المقرر الإفراج عنه في صفقة تبادل أسرى متعثرة بسبب تعنت نتنياهو. يظهر الفيديو الأسر وقد نحل جسده وبرزت عظامه من شدة الجوع، مصحوباً بعبارة مؤثرة تقول: "قررت حكومة الاحتلال تجويعهم". وعبارة أخرى تؤكد: "يأكلون مما نأكل ويشربون مما نشرب". بالإضافة إلى لقطات مؤثرة توثق الحالة المزرية التي يعيشها أطفال غزة الرضع، وتصريحات لوزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، يشدد فيها على أن ما يجب إرساله إلى غزة في المرحلة المقبلة هو القنابل، وتصريحات أخرى لنتنياهو يؤكد فيها "إتاحة الحد الأدنى من المساعدات".

أحدث هذا الفيديو صدمة كبيرة داخل إسرائيل، حيث تساءل زعيم المعارضة يائير لابيد عما إذا كان بإمكان أعضاء الحكومة أن يناموا قريري الأعين بعد رؤية الحالة المأساوية التي وصل إليها الأسير. وتحدث البعض عن أن صورة الأسير، وكذلك صور الجوعى في غزة، تذكر بما كان عليه اليهود المحتجزون في معسكرات الاعتقال النازية.

ورفعت عائلات الأسرى الإسرائيليين شعاراً مدوياً يقول: "أوقفوا هذا الجنون، ووقعوا اتفاقاً شاملاً لإعادة جميع المختطفين". بل إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه، الذي كان قد اكتفى بالقول عن أطفال غزة: "يبدو أنهم جائعون جداً"، عاد ليقول: "أعمل على خطة لتوفير الطعام لأهل غزة". ثم أرسل مبعوثه ويتكوف ليصحب سفير أميركا لدى إسرائيل في زيارة لغزة، يقدم فيها تقريراً مفصلاً لترامب عن أوضاع الغذاء هناك.

ربما تسهم هذه الضغوط المتزايدة في وضع حد للمجاعة في غزة، أو على الأقل التخفيف من حدتها. وربما يلجأ نتنياهو إلى إجراءات تجميلية معتادة، للتخفيف من آثار جريمة التجويع على صورة إسرائيل المشوهة، ومنها ما يسمى "هدنا إنسانية يومية" لمدة عشر ساعات في مناطق مكتظة بالسكان، للالتفاف على المطلب الفلسطيني بالعودة الكاملة إلى نظام توزيع المساعدات الذي تقوده الأمم المتحدة، والذي كان قائماً طوال فترة الحرب. وربما ينتهي الأمر بالاكتفاء باقتراح ترامب بـ "إنشاء مراكز لتوزيع الطعام، بدون أسوار أو حدود، لتسهيل الوصول إليها".

لكن هذه الإجراءات الجزئية والترقيعية لن تتمكن من إنهاء المجاعة المتفاقمة، حتى لو حافظت إسرائيل على معدل دخول 146 شاحنة فقط يومياً إلى القطاع، حسب تقديرات جيشها، بينما المطلوب هو دخول ما بين 500 و600 شاحنة على الأقل. وهذا لن يتحقق إلا إذا توقفت الحرب بشكل كامل، وتخلت إسرائيل عن استخدام الغذاء كسلاح لتحويل الحياة في القطاع إلى جحيم لا يطاق، وبالتالي إجبار أهله على الهجرة القسرية والنزوح الجماعي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة